التعهيد الجماعي

التعهيد الجماعي

د. عبد الرحمن الجاموس

دكتوراه في إستراتيجيات الأعمال

توصل باحثون في عام 2007 في دراسة مشتركة بين جامعة كوبينهاجن وموقع innocentive الى نتائج معاكسة لما كان سائداً في الأوساط العلمية، حيث تناولت الدراسة حينها أكثر من 166 مشكلة طرحتها معامل البحوث في أكثر من 26 شركة ومؤسسة وخلصت الى أن الحلول الناجعة لأعقد المسائل العلمية ربما لا تأتي من أناس يعملون في الوسط العلمي، بل ربما جاءت من أناس بعيدين كلياً عن ذلك الوسط، ويمكن تحشيدهم من خلال ما يُسمى بالتعهيد الجماعيCrowdsourcing  .

 وتعد أول حادثة مسجلة للتعهيد الجماعي تلك الحادثة التي وقعت عام 1714م في بريطانيا، حيث قررت لجنة بريطانية عرض جائزة لمن يستطيع تفسير سر اختفاء السفن في عرض البحر مما أدى الى نزيف لموارد الإمبراطورية البريطانية. تعتقد البحرية البريطانية ان عدم قدرتها على تحديد خطوط الطول وراء ذلك لهذا لابد من معادلة رياضية تفك طلاسم كثيرة ومنها "خطوط الطول" ولذلك أطلق على الجائزة اسم جائزة خط الطول  Longitude Prize، وعندما تلقت الأوساط العلمية النبأ بدأوا في تطوير أداة القياس لكن دون جدوى، الى ان حصل نجاراً عادياً يدعى جون هاريسون على إعلان البحرية البريطانية ليتقدم بأداه أشبه بالإسطرلاب تقيس خط الطول.

 إن جائزة خط الطول تمثل حالة من حلات التعهيد الجماعي والتعبئة الجماعية، وذلك بإشراك الجمهور في تحقيق هدف مشترك، وقد فتحت هذه الممارسة الباب أمام طرق جديدة للتعاون بين المؤسسات والجمهور سواء بالأفكار أو الوقت أو الخبرة.

 في عصرنا الحالي ظهر ما يسمى بالتعهيد الجماعي "المجاني" حيث يمكن للمؤسسات ان تُشغّل الجمهور مجاناً، ويعمل الجمهور مستمتعاً بتنفيذ المهام "المجانية" الموكلة له، فمثلاً أصدرت لجنة تحقيق بريطانية في عام 2016 تقريراً باسم تقرير تشيلكوت لتوضيح دور بريطانيا في حرب العراق. التقرير أحدث ضجةً في بريطانيا لانه اظهر ان صدام حسين لم يشكل تهديداً ملحاً للمصالح البريطانية، كما لم تستنفد البدائل السلميّة للحرب، وانَّ كلاًّ من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية قوضتا سلطة مجلس الأمن. جميع وسائل الإعلام اعتبرت ما ظهر في التقرير إدانة لطوني بلير، غير أنَّ المشكلة التي واجهها الإعلاميون في بريطانيا هي أنَّ التقرير كبير جدّاً، ويحتوي على 2.6 مليون كلمة، لذلك لجأت وسائل الإعلام من بينها BBC  والغارديان إلى التَّعهيد الجماعي من خلال مخاطبة القراء والمستمعين والمشاهدين للمساعدة في اكتشاف ثنايا التقرير والإبلاغ عن قضايا لم يلتفت إليها الإعلاميون في التقرير الضخم والذي لا يمكن لشخص واحد أو مجموعة من مئات الصحافيين قراءته بسرعة.

 في ظل فكرة التعهيد الجماعي فان الأفراد يختارون العمل في المشروع، بدلاً من اختيارهم من قبل المنظمة وهو بذلك يختلف عن الاستعانة بمصادر خارجية Outsourcing، ويتيح التعهيد الجماعي للمؤسسات خفض التكاليف، والسرعة في إنجاز المهمات، والجودة، والمرونة، اضافة الى قابلية التوسع والتنوع.

وفي تجربة معاصرة يبرع أحمد فاخوري مقدم برنامج تريندينغ على قناةBBC  في الاستخدام الفعّال لمفهوم التعهيد الجماعي، يستعرض فاخوري عادة أبرز ما يتم تداوله في العالم الافتراضي، ويخاطب الشباب بلغتهم الخاصة، لهذا فان أفكار المواضيع المطروحة في برنامجه غالباً ما يصنعها المشاهد، وفي حياته العامة يستخدم فاخوري كاميرا هاتفه ويصور مقاطع فيديو قصيرة جداً، ويطلب بتغريدات ذكية وسريعة من متابعيه التعليق مستدراً الافكار التي قد تثري المواضيع، كما هناك منصات تبرع بهذا النوع من التعهيد الجماعي المجاني مثل Wikipedia التي تعهد مهمة التحرير لعدد كبير من المحررين الذين قد لا يعرفون بعضهم البعض.